فصل: تفسير الآية رقم (54):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (54):

{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)}
وساعة ياتي العذاب فالإنسان يرغب في الفرار منه، ولو بالافتداء.
وانظر كيف يحاول الإنسان أن يتخلص من كل ما يملك افتداء لنفسه، حتى ولو كان يملك كل ما في السموات وما في الأرض.
ولكن هل يتأتى لأحد غير الله سبحانه أن يملك السموات والأرض؟
طبعاً لا.
إذن: فالشر لا يتأتَّى. وهَبْ أنه تأتَّى، فلن يصلح الافتداء بملك ما في السموات وما في الأرض؛ لأن الإنسان الظالم في الدنيا قد أخذ حق الغير، وهذا الغير قد كسب بطريق مشروع ما أخذه الظالم منه، والظالم إنما يأخذ ثمرة عمل غيره، ولو صحَّ ذلك لتحوَّل البعض إلى مغتصبِين لحقوق الغير، ولأخذوا عرق وكدح غيرهم، ولتعطلت حركة الحياة.
ولذلك إن لم يردع الله سبحانه وتعالى الظالم في الدنيا قبل الآخرة لاستشرى الظلم، وإذا استشرى الظلم في مجتمع، فالبطالة تنتشر فيه، ويحاول كل إنسان أن يأخذ من دم وعرق غيره، وبهذا يختلّ ميزان العدل وتفسد حركة الحياة كلها.
وهَبْ أن الظالم أخذ مُلْك الدنيا كلها، وأراد أن يفتدى به نفسه ساعة يأتي العذاب، ويفاجأ بأن كسبه من حرام لا يُقْبَل فداءً، أليس هذا هو الخسران الكبير؟ وهذه ظاهرة موجودة في دنيا الناس.
وهَبْ أن واحداً ارتشى أو اختلس أو سرق، ويفاجئه القانون ليمسكه من تلابيبه فيقول: خذوا ما عندي واتركوني. ولن يقبل القائمون على القانون ذلك. وإن كان مثل هذا التنازل يحدث في(الجمارك) فنرى من يتنازل عن البضائع المهربة مقابل الإفراج عنه، هذا ما يحدث في الدنيا، لكنه لن يحدث في الآخرة.
وفي سورة البقرة يقول الحق سبحانه: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 48].
وقال الحق سبحانه في آية أخرى: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 123].
وقال بعض المشككين أن الآيتين متشابهتان، ولم يلتفتوا إلى أن كل آية تختلف عن الأخرى في التقديم للعدل، والتأخير للشفاعة.
والبلاغة الحقَّة تتجلَّى في الآيتين؛ لأن القارئ لصَدْر كل آية منهما، والفاهم للمَلَكه اللغوية العربية أن عَجُز كل آية يناسب صدرها.
ومن يقرأ قول الحق سبحانه: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ} [البقرة: 48].
يرى أنه أمام نفسين: النفس الأولى هي التي تقدِّم الشفاعة، والنفس الثانية هي المشفوع لها. والشفاعة هنا لا تُقبل من النفس الأولى الشافعة، وكذلك لا يُقبل العدل.
وفي الآية الثانية لاتُقبل الشفاعة ولا العدل من النفس المشفوع لها، فهي تحاول أن تقدم العدل أولاً، ثم حين لا ينفعها تأتي بالشفيع.
وهكذا جاء التقديم والتأخير في الآيتين مناسباً للموقف في كل منهما.
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرض لاَفْتَدَتْ بِهِ} [يونس: 54].
وفي هذا القول تعذُّرِ ملْك النفس الواحدة لكل ما في الأرض، ولو افترضنا أن هذه النفس ملكته فلن تستطيع الافتداء به؛ وتكون النتيجة هي ما يقوله الحق سبحانه: {وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} [يونس: 54].
أي: أخفوا الحسرة التي تأتي إلى النفس، وليس لها ظاهر من انزعاج لفظي أو حركي.
إن كلاّ منهم يكتم هَمَّه في قبله؛ لأنه ساعة يرى العذاب ينبهر ويُصعَق ويُبهَت من هول العذاب، فتجمد دماؤه، ولا يستطيع حتى أن يصرخ، وهو بذلك إنما يكبت ألمه في نفسه؛ لأن هول الموقف يجمِّد كل دم في عروقهم، ويخرس ألسنتهم، ولا يستطيع أن ينطق؛ لأنه يعجز عن التعبير الحركي من الصراخ أو الألم.
ونحن نعلم أن التعبير الحركي لون من التنفيس البدني، وحين لا يستطيعه الإنسان، فهو يتألم أكثر.
هم إذن يُسرُّون الندامة حين يرون العذاب المفزع المفجع، والكلام هنا عن الظالمين، وهم على الرغم من ظلمهم، فالحق سبحانه يقول: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [يونس: 54].
وهؤلاء رغم كفرهم واستحقاقهم للعذاب يلقون العدل من الله، فَهَبْ أن كافراً بالله بمنأى عن الدين ظلم كافراً آخر، أيقف الله سبحانه من هذه المسألة موقفاً محايداً.
لا؛ لأن حق خَلْق الله سبحانه الكافر المظلوم يقتضى أن يقتص الله سبحانه له من أخيه الكافر الظالم؛ لأن الظالم الكافر، إنما ظلم مخلوقاً لله، حتى وإن كان هذا المظلوم كافراً.
ولذلك يقضي الله بينهم بالحق، أي: يخفِّف عن المظلوم بعضاً من العذاب بقدر ما يثقله على الظالم.
هذا هو معنى {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} لأنها تتطلب قضاء، أي: عدم تحيز، وتتطلب الفصل بين خصومتين.
ويترتب على هذا القضاء حكم؛ لذلك يبين لنا الحق سبحانه أنهم وإن كانوا كافرين به إلا أنه إن وقع من أحدهم ظلم على الآخر، فالحق رب الجميع وخالق الجميع، كما أعطاهم بقانون الربوبية كل خير مثلما أعطى المؤمنين، فهو سبحانه الذي أعطى الشمس، والماء، والهواء، وكل وسائل الرزق والقُوت لكل الناس مؤمنهم، وكافرهم فإذا ما حدث ظلم بين متدينين بدين واحد، أو غير متدينين، فلابد أن يقضي فيه الحق سبحانه بالفصل والحكم بالعدل.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض}

.تفسير الآية رقم (55):

{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)}
و(ألا) في اللغة يقال عنها (أداة تنبيه) وهي تنبه السامع أن المتكلم سيقول بعدها كلاماً في غاية الأهمية، والمتكلم كما نعلم يملك زمام لسانه، بحكم وضعه كمتكلم، لكن السامع يكون في وضع المُفاجَأ.
وقد يتكلم متكلم بما دار في ذهنه ليبرزه على لسانه للمخاطب، ولكن المخاطب يفاجأ، وإلى أن ينتبه قد تفوته كلمة أو اثتنان مما يقوله المتكلم.
والله سبحانه وتعالى يريد ألاَّ يفوت السامع لقوله أي كلمة، فأتى بأداة تنبيه تنبه إلى الخبر القادم بعدها، وهو قول الحق سبحانه: {إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} [يونس: 55].
هكذا شاء الحق سبحانه أن تأتي أداة التنبيه سابقة للقضية الكلية، وهي أنه سبحانه مالك كل شيء، فهو الذي خلق الكون، وخلق الإنسان الخليفة، وسخَّر الكون للإنسان الخليفة، وأمر الأسباب أن تخضع لمسببات عمل العامل؛ فكل من يجتهد ويأتي بالأسباب؛ فهي تعطيه، سواء أكان مؤمناً أو كافراً.
وإذا خدمت الأسبابُ الإنسانَ، وكان هذا الإنسان غافلاً عن ربه أو عن الإيمان به، ويظن أن الأسباب قد دانت له بقوته، ويفتن بتلك الأسباب، ويقول مثلما قال قارون: {قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي} [القصص: 78].
فالذي نسي مسبِّب الأسباب، وارتبط بالأسباب مباشرة، فهو ينال العذاب، إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة؛ فكأن الحق سبحانه ينبههم: تَنَّبهوا أيها الجاهلون، وافهموا هذه القضية الكبرى: {إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} [يونس: 55].
فإياك أيها الإنسان أن تغترَّ بالأسباب، أو أنك بأسبابك أخذت غير ما يريده الله لك، فهو سبحانه الذي أعطاك وقدَّر لك، وكل الأسباب تتفاعل لك بعطاء وتقدير من الله عز وجل.
وفي أغيار الكون الدليل على ذلك، ففكرك الذي تخطِّط به قد تصيبه آفة الجنون، والجوارح مثل اليد أو القدم أو اللسان أو العين أو الأذن قد تُصاب أيُّ منها بمرض؛ فلا تعرف كيف تتصرف.
وكل ما تأتي فيه الأغيار؛ فهو ليس من ذاتك، وكل ما تملكه موهوب لك من مسبِّب الأسباب.
فإياك أن تنظر إلى الأسباب، وتنسى المسبِّب؛ لأن لله ملك الأشياء التي تحوزها والأدوات التي تحوز بها؛ بدليل أنه سبحانه حين يشاء يسلبها منك، فتنبه أيها الغافل، وإياك أن تظن أن الأسباب هي الفاعلة، بدليل أن الله سبحانه وتعالى يخلق الأسباب؛ ثم يشاء ألا تأتي بنتائجها، كمن يضع بذور القطن مثلاً ويحرث الأرض، ويرويها في مواعيدها، ثم تأتي دودة القطن لتأكل المحصول.
إذن: فمردُّ كل مملوك إلى الله تعالى.
واعلمْ أن هناك مِلْكاً، وإن هناك مُلْكاً، والمِلْك هو ما تملكه؛ جلباباً؛ أو بيتاً، أو حماراً، إلى غير ذلك، أما المُلْك فهو أن تملك من له مِلْك، وتسيطر عليه، فالقمة إذن في المُلْك.
وانظر إلى قول الحق سبحانه: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ} [آل عمران: 26].
إذن: فالمُلك في الدنيا كله لله سبحانه.
وكلمة (ألا) جاءت في أول الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها لتنبِّه الغافل عن الحق؛ لأن الأسباب استجابت له وأعطته النتائج، فاغترَّ بها، فيجعل الله سبحانه الأسباب تختلف في بعض الأشياء؛ ليظل الإنسان مربوطاً بالمسبِّب.
ويقول الحق سبحانه في نفس الآية: {أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} [يونس: 55].
والوعد إن كان في خير فهو بشارة بخير يقع، وإن كان بِشَرٍّ فهو إنذار بشرّ يقع؛ ويغلب عليه كلمة (الوعيد).
إذن: ففي غالب الأمر تأتي كلمة (وعد) للأثنين: الخير والشر، أما كلمة (وعيد) فلا تأتي إلا في الشر.
والوعد: هو إخبارٌ بشي سيحدث من الذي يملك أن يُحْدِث الشيء.
وإنفاذ الوعد له عناصر: أولها الفاعل، وثانيها المفعول، وثالثها الزمان، ورابعها المكان، ثم السبب.
والحدث يحتاج إلى قدرة، فإن قلت: (آتيك غداً في المكان الفلاني لأكلمك في موضوع كذا) فماذا تملك أنت من عناصر هذا الحدث؛ إنك لا تضمن حياتك إلى الغد، ولا يملك سامعك حياته، وكذلك المكان الذي تحدد فيه اللقاء قد يصيبه ما يدمِّره، والموضوع الذي تريد أن تتحدث فيه، قد يأتي لك خاطر ألا تتحدث فيه من قبل أن يتم اللقاء.
وهَبْ أن كل العناصر اجتمعت، فماذا تملك أنت أو غيرك من عناصر الوعد؟ لا شيء أبداً.
ولذلك يعلِّم الله سبحانه خَلْقه الأدب في إعطاء الوعود، التي لا يملكونها، فيقول سبحانه: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 23- 24].
وحين تقدِّم المشيئة فإن حدث لك ما يمنع إنفاذ الوعد فلن تكون كذاباً.
وهكذا يعلّمنا ربنا صيانة أخبارنا عن الكذب، وجعلنا نتكلم في نطاق قُدراتنا، وقُدراتنا لا يوجد فيها عنصر من عناصر الحدث، لكن إذا قال الله سبحانه، ووعد، فلا رادّ لما وعد به سبحانه؛ لأنه منزَّه عن أن يُخْلف الميعاد؛ لأن عناصر كل الأحداث تخضع لمشيئته سبحانه، ولاَ تتأبَّى عليه، ووعده حق وثابت.
أما أنت فتتحكم فيك الأغيار التي يُجريها الحق سبحانه عليك.
وهَبْ أنك أردت أن تبني بيتاً، وقلت للمهندس المواصفات الخاصة التي تريدها في هذا البيت، لكن المهندس لمي يستطع أن يشتري من الأسواق بعضاً من المواد التي حددتها أنت، فأنت إذن قد أردت ما لا يملك المهندس تصرُّفاً فيه.
لكن الأمر يختلف بالنسبة للخالق الأعلى سبحانه؛ فهو الذي يملك كل شيء، وهو حين يَعد يصير وَعْدُه محتَّم النفاذ، ولكن الكافرين ينكرون ذلك؛ ولذلك قال الله سبحانه: {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [يونس: 55].
أي: أنهم لا يعلمون هذه الحقيقة، فقد سبق أن قالوا: {متى هذا الوعد} [يونس: 48].
أو أن {أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} تعني: أن الإنسان يجب ألاَّ يضع نفسه في موعد دون أن يقدِّم المشيئة؛ لأنه لا يملك من عناصر أي وعد إلا ما يشاؤه الله تعالى.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ}

.تفسير الآية رقم (56):

{هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)}
ونحن نعلم أن حركة الحياة، والمِلْك والمُلْك، هي فروع من الأحياء، وهو سبحانه حَيٌّ؛ لأنه مالك الأصل، وهو القادر على أن يميت، وكل ما يصدر عن الحياة يسلبه الله سبحانه بالموت فهو مالك الأشياء، والأسباب التي تُنتج الأشياء، ولا يفوته شيء من وعد ولا وعيد، ونحن نحيا بمشيئته سبحانه، ونموت بمشيئته سبحانه، فلن نفلت منه.
لذلك قال سبحانه: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فمن لا يعتبر بأمر الأحياء؛ عليه أن يرتدع بخوف الرجعة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {ياأيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ}